مصطفى بوبكراوي
في العديد من منعرجات تاريخ المغرب تقف نساء كان لهن الفضل في أن تأخذ الأحداث هذه الوجهة أو تلك، أو في أن يتكرس مسار معين دون آخر ولو بعد حين. إنهن نساء ساهمن في رسم الحدث باعتبارهن جزء من مجتمع ولم يتوقفن كثيرا عند مثبطات واقعية أو متخيلة.
المتصفح لتاريخ المغرب يكتشف أن عدد هؤلاء النسوة كبير جدا، وأنه من الصعب اختيار هذه السيدة دون تلك، ففي كل انتقاء ظلم لبطولة امرأة أو لجرأة سيدة أو لتضحية مغربية.

نتوقف في هذا الحيز عند سبع نساء من اللائي برزت أسماؤهن بهذا القدر أو ذاك في هذه المحطة أو تلك من تاريخ المغرب.

فاطمة الفهرية... على كل من يلج جامعة أن يتذكر اسم هذه السيدة 

عندما ورثت فاطمة الفهرية هي وأختها مريم مالا  كثيرا عن أبيها محمد بن عبد الله الفهري، كان همها الأول هو أن تعيد بناء جامع القرويين بفاس والصيام حتى انتهاء أشغال إقامته والذي وافق حسب المصادر التاريخية أول رمضان سنة 245 هجرية.

بهذا القرار كانت فاطمة الفهرية تضع لبنة ما يعتبر لاحقا نواة أول تعليم جامعي في المغرب، ومنارة سيقصدها طلاب العلم من كل أنحاء العالم الإسلامي المترامي الأطراف  وحتى من خارجه.

ويعتقد أن التدريس بالجامعة بدأ بعد بناء الجامع مباشرةً على شكل دروس وحلقات علم، غير أن بعض المؤرخين يعتقدون أنها لم تُصبح جامعة إلا في العهد المرابطي أو المريني. في جميع الحالات هي أول بنية تعليم عال وأول مؤسسة تحدث كراسي علمية متخصصة، ونظاما للدرجات العلمية.

وبالإضافة إلى كونها نواة أول جامعة في العالم فإن جامع القرويين يمثل أيضا مرجعا في العمارة الإسلامية بالغرب الإسلامي وهو يضم نماذج للعمارة المغربية في عصور مختلفة بالنظر لعمليات الإصلاح والترميم والتجديد التي شهدتها البناية. وستكون جامعة القرويين حاضرة في مختلف المحطات التاريخية للبلاد من خلال رجال ونساء تخرجوا وتخرجن من هذا الصرح العلمي الذي أقامته امرأة ورعة وفاء لذكرى والدها. لقد قامت فاطمة الفهرية من حيث تدري او لا تدري بثورة كبيرة في مجال التعليم سيمتد آثارها إلى كل بقاع العالم حيث قدر للجامع الذي أقامته أن يصبح وجهة للباحثين عن الأنوار من إفريقيا وآسيا وأوروبا.

من هذا المنطلق يفترض أن يكون اسم فاطمة الفهرية حاضرا في كل تأريخ للتعليم الجامعي عبر العالم ومنه في العالم الإسلامي الذي لا زال، للمفارقة، يكافح في العديد من أرجائه من أجل توفير تعليم أولي فقط للفتاة بالخصوص. السيدة الحرة.. امرأة أبت أن تكون مجرد عنوان لتحالف قيادتين 

تؤكد مصادر تاريخية أن السيدة الحرة إبنة الأمير علي ابن موسى بن راشد زوجت لقائد مدينة تطوان سنة 1510 في إطار ما يمكن وصفه بترتيب لتمتين العلاقة بين قيادة شفشاون وقيادة تطوان، من أجل رص الصفوف لمواجهة الأطماع الأجنبية.

غير أن السيدة الحرة، التي راكمت ثقافة كبيرة صقلت شخصيتها، أبت أن تكتفي بدور زوجة قائد. ويشير مؤرخون إلى أن زوجها كان يستشيرها في أمور الحكم مما زاد من درايتها بأمور السياسة والتسيير و التعاطي مع قضايا الناس. وعند وفاته أصبحت مدينة تطوان خاضعة لسلطة شقيقها الأمير إبراهيم بن علي بن راشد حاكم شفشاون، وحين أصبح وزيراً للسلطان أحمد الوطاسي عيّن اخته حاكمة على المدينة.

تزوجت السيدة الحرة بالسلطان أحمد الوطاسي في العام 1541م بمدينة تطوان وليس بفاس عاصمة حكمه،كما جرت العادة مما يدل على مكانة هذه المرأة ووزنها في شبكة النفوذ آنذاك.

وتذكر مصادر تاريخية أيضا أن السيدة الحرة عمدت من أجل تعزيز جبهة الجهاد البحري ضد الإسبان إلى التحالف مع أمير البحار العثماني خير الدين بربروسا المعروف بالجهاد بحرا ضد القوى الأوروبية. فكان أن تولت السيدة الحرة تدبير الجهاد غرب المتوسط فيما استمر القائد العثماني في قيادة العمليات شرقه.

مليكة الفاسي.. رافعت من أجل الاستقلال وضد أمية النساء 

مليكة الفاسي هي المرأة الوحيدة التي وقعت على وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944، إلى جانب شخصيات وطنية أخرى من الرجال. وقد كان توقيع مليكة الفاسي مهما، ليس فقط لكونها امرأة، بل  لأنه أكد أن الاستقلال كان مطلبا مغربيا وليس مطلب زعامات مغربية فحسب. 

لكن مليكة الفاسي لم تكن من بين الموقعين على وثيقة المطالبة بالاستقلال فقط، بل كانت من بين أولى الصحافيات في المغرب وقد كتبت مقالات في صحيفتي "المغرب"، وجريدة "العلم"، ابتداءً من سنة 1934 تنافح فيها عن التحرير وعن الإصلاح الذي يشمل المرأة والرجل على حد سواء.

ولدت مليكة الفاسي، في 19 يناير سنة 1919، بمدينة فاس، وحرص والداها على أن يكون لبنتهما حظ من التعليم تماما كما لإخوانها الذكور. 

وقد ناضلت السيدة التي وقعت مقالاتها الأولى باسمي "فتاة" و"باحثة الحاضرة"، من أجل فتح فرع دراسي للطالبات بجامعة القرويين ومدارس حرة أخرى خاصة للفتيات وظلت مدافعة عن حق النساء في التعلم إلى درجة التوسل في مرحلة مبكرة بالأدب لنشر هذه الدعوة. فقد كتبت مليكة الفاسي الأديبة نصوصا عديدة منها قصة "الضحية" سنة 1941 بمجلة "الثقافة المغربية"، ونص "دار الفقيه" سنة 1938.

زينب الموحدية.. المرأة التي حاججت الرجال في الأدب وعلم الكلام

هي زينب ابنة الخليفة يوسف بن عبد المومن الموحدي،ولدت في النصف الثاني من القرن 12 م، قيل عنها إنها المرأة التي  ترمز لعصر الموحدين فكرا وسيرة ومذهبا. نهلت من أفضل ما اجتمع في عصرها من علوم وآداب وفقه. قد تكون نشأتها في بيت حكم وراء تمكنها من الوصول إلى علوم النقل والعقل غير أنها كانت أيضا نتاجا لسياسة انتهجت في الأمبراطورية الموحدية لتعليم النساء. ستلهم شخصية زينب عالمة زمانها بعد قرون الشاعر علي الصقلي ليكتب مسرحية شعرية عنها تحت عنوان "الأميرة زينب".

مسعودة الوزكيتية.. امرأة الوقف بانية القناطر والمدارس والمساجد  

عندما تتحدث المصادر التاريخية عن مسعودة والدة السلطان أحمد المنصور السعدي تبرز اهتمامها  بالجانب الاجتماعي (رعاية الأيتام…)، لكنها أيضا تتوقف عند حرص هذه السيدة على إقامة ما يوصف حاليا بالمرافق العامة أو البنيات التحتية وتخصيص وقف لها.

فقد أنشأت مساجد كما جرت العادة، لكنها أنشأت أيضا قناطر وكراسي علم. ومن أشهر المرافق التي أسستها مسعودة الوزكيتية مسجد باب دكالة بمراكش عام 965ه، وفي جواره مدرسة للطلبة ومكتبة وأيضا القنطرة الكبيرة على وادي أم الربيع. على الواجهة الاجتماعية كانت "للا عودة" الاسم الآخر لمسعودة الوزكيتية حريصة على التكفل بالأيتام وتجهيزهم وتزويجهم وامتد نشاطها الاجتماعي هذا ليشمل مناطق واسعة من البلاد.

خربوشة.. امرأة ثارت فغنت

لم يدر بخلد القائد ولد عيسى بن عمر العبدي (من مواليد عام 1842)، والذي حكم بيد من حديد مناطق من عبدة وقبائلها من سبعينات القرن التاسع عشر، أنه سيخلد في الذاكرة الشعبية كظالم ومستبد بسبب صيحة امرأة.

وربما لم يكن القائد المتسلط المهاب الجانب من قبائل عبدة يتوقع أن تأتيه رصاصة خربوشة عبر العيطة التي قيل إنه كان شغوفا بها حيث يحكى أن عدد شيوخ وشيخات العيطة كان كبيرا في مناطق نفوذه.

كان هجاء خربوشة للقائد المتسلط مباشرا ودون مواربة ولم تتورع عن تحقيره في "عيوط" سهلة الوصول إلى العامة في وقت كان زعماء القبائل وسادتها يطلبون ود ولد عيسى بن عمر العبدي أو يتجنبون شره على الأقل.

كانت المعركة بين خربوشة والقائد غير متكافئة، وربما كانت خربوشة تعرف أن من يقف في وجه القائد القوي والغني قد يدفع حياته ثمنا لموقفه ووقفته، لكنها واصلت قرض "العيوط" التي تصف جرائم "القايد" الذي وصف في المصادر التاريخية بأنه كان يكثر من إزهاق الأرواح.

وبالفعل ستنضم روح خربوشة إلى الأرواح التي أزهقها "القايد" الغاضب. ومع اختلاف في الروايات حول مكان وطريقة قتلها، فإن القائد ولد عيسى بن عمر العبدي لم يتمكن من "قتل" عيوط خربوشة ضده كرمز لكل استبداد وتسلط.

وستبقى خربوشة المرأة التي تقدمت صفوف قبيلتها الثائرة ضد الاضطهاد والضرائب المتزايدة. وإذا كان التاريخ قد أغفل أسماء كثير من الثوار والثائرات فإن "العيطة" أنقذت خربوشة من النسيان.

فاضمة وحرفو، امرأة من زمن الرصاص

تعرف المغاربة على اسمها وعلى مأساتها لأول مرة مع هيئة الإنصاف والمصالحة. فلم يكن لفاضمة وحرفو فصيل ولا حزب ولا مجموعة تحيي ذكراها أو تروي قصتها. 

لاشيء في حياة فاضمة وحرفو كان يؤشر على أن اسمها سيرتبط بسنوات الرصاص في سبعينيات القرن الماضي. فهذه المرأة القروية ولدت (1934) وعاشت في  قصر(دوار) "السونتات" دائرة إملشيل، وربما لم تغادره أو لم تبتعد عنه ولو لبضعة كيلومترات قبل شهر مارس من 1973 عندما تم اختطافها لتتنقل بين مراكز الاعتقال من "بوزمو" إلى "الكوربيس"، ثم إلى "درب مولاي الشريف"، قبل أن تسجن في سجن أكدز حيث ستلفظ أنفاسها الأخيرة في 20 دجنبر 1976، وتنضم إلى قائمة ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في الفترة التي عرفت ب"سنوات الرصاص".

ستظل فاطمة وحرفو اسما بدون صورة إلى غاية 2019، أي بعد أزيد من عقدين من ترديد اسمها في جلسات الاستماع، حيث قال أقاربها إنه تم العثور على صورة فريدة لها ليصبح لفاضمة اسم وصورة وقصة تحكى.

المصدر: المجلة الذكية باب