جديد انفو - الرشيدية / متابعة

المعيش اليومي وما يرتبط به من مشغولات يدوية بمنطقة الجنوب الشرقي شكّل حقلا خصبا لبروز موروث ثقافي واجتماعي راسخ في الذاكرة الجماعية مصدره المخيال الشعبي ،فالملاحظ أن الطقوس الاحتفالية والأهازيج والرموزالمرتبطة بالمشغولات اليدوية بالمنطقة مثل  " لمزبرة ""الرحى" و"أقراب " و"تشكالت" يمتزج فيها الفكر بالسلوك والحقيقة بالخرافة، كما تختلط فيها الدوافع والبواعث بالغايات ذاك  ما طبع الثقافة الشعبية بالمنطقة وتراثها ومنحها ميزة خاصة.

هذه  المشغولات تحمل طقوسا مرة فردية ومرات أخرى احتفالية جماعية، ولا يمكن الحفاظ على رمزيتها عبر الزمن إلا بالتدوين بعد قراءة أيقوناتها قراءة إبستمولوجية عالمة، فمن كان منها رمزيا معنويا وجب حفظه بالتدوين وتلقينه للناشئة عبر مقررات دراسية تحفظ تاريخ هذا الموروث، ومن كان منها ماديا يجب حفظه في المتاحف ليشكل مادة للباحثين،فهذا الموروث الثقافي له حضوره الوازن بتافيلالت والجنوب الشرقي الواحي عموما، ورمزيته تتجاوز المغلق الضيق إلى المنفتح الشاسع.

من هذه المشغولات اليدوية  "الرحى"، التي تعد من اللوازم المنزلية الأساسية لعيش الإنسان بالواحات بها يُطحن الزرع  وبها تحضر العديد من المواد  الأساسية في المطبخ إذ بها تدق الحناء والبن وبعض التوابل والأعشاب الطبية ونحوها وقد أنقذت الساكنة من الجوع سنين طويلة ، ولا يكاد يخلو بيت تقليدي بالمغرب العميق  من هذه الوسيلة ، وتوضع في البهو أو في مكان  محفوظ خاص حتى موعد الطحن، لأنها من الوسائل التي يسّرت عيش الساكنة، قبل الحداثة التقنية ...ولها رموز متعددة في المخيال الشعبي  :  فهي الفرج  بعد الضيق، والغنى بعد الفقر، ووجودها في الدار التي لم تجرَ لهم بها عادة، دال على الأنكاد والغلبة والخصام، فإن طحنت  قمحاً أو شعيراً، أو ما فيه نفع دل ذلك على اليسر والخير، وإن دارت بصوتها حف الرزق المكان وشُفي الأهل من الأمراض، وإن دارت  بلا حنطة فذاك تعب، ..والرحى إن دارت معوجة سيغلو السعر، وإن لوى الأطفال عصاها الصغيرة ، فذاك دلالة على قرب آجال صاحبتها، أما إذا انكسرت  فصاحب الرحى سيتوفاه الآجال قريبا، ومن اشترى رحى تزوج إن كان عازباً ، أو زوّج ابنه أو ابنته قريبا ، إن كان متزوجا ،أو سافر إن كان من أهل السفر، والعريس  حين يطحن بمعية عروسه قبل الزفاف فذاك أمل  في تيسير العسير، وتمني الغيث والفرج واستمرار الحياة بالعطاء  والذرية المعطاء، وهي أمور اعتقادية سارية ومتداولة بين الناس على مر الأزمان كالحِكم.

وأثناء الطحن  لا يجب أن يحف المكان الصمت العميق، بل يجب أن  تردد النساء بعض الأهازيج التي من شأنها أن تخفف عنهن عناء العمل، وعادة ما تحمل هذه الأهازيج إشارات نحو موضوع ما  وتختلف من أداء فردى إلى أداء جماعي تشترك فيه عدة نسوة  وهي بين الرضا والقناعة  والغزل والحِكم، وكم تتمنى النساء  والقوم ألا تدور الأيام كدائرة الرحى.. وكم أتعبت الرحى أيادي نساء  البوادي  لسنين طويلة  فوفرن بها  خبزا ورغيفا لأولادهن واحفادهن دون أن يسمع لهن صوت الألم او النفور من العمل اليومي المتعب بالبوادي.

هذه الآلة التقليدية إلى جانب غيرها وشمت ذاكرة الجنوب الشرقي بالبساطة والعيش الجماعي المشترك المبني على قيم التعاون والتفاني في خدمة الجماعة... والوقوف عند رمزية هذه المشغولات وغيرها هو "رد الاعتبار للأنا  الفردية والجماعية "، كما أن إحياء هذه الرموز فيه تشبث بالهوية والانتماء وقد يزيدنا فخرا عندما نلقن تراثنا لأجيالنا عوض أن نكون عالمين لتراث الآخر وجاهلين لتراثنا  .